ذكر نور عرفه ويزيد صايغ وقبول العبسي ومايا شحادة وماري باسي ودعاء أبوسوار وسورايا راحم ـن رجال الأعمال الليبيين في مصر يشكّلون مجتمعاً اقتصادياً عابراً للحدود، يرتبط بنفوذ الدولة أكثر مما يرتبط بروح المبادرة الحرة. أحد رؤساء الشركات الليبية متعددة الجنسيات العاملة في مصر منذ التسعينيات وصف العلاقة بين البلدين قائلاً: “مصر امتداد طبيعي لليبيا، والتجارة بيننا ممتدة منذ قرون”. ورغم التحديات الاقتصادية التي تواجه السوق المصرية، فإن استقرارها النسبي يجذب المستثمرين الليبيين الذين يبحثون عن بديل آمن وسط الانقسام السياسي والأمني في بلادهم.
وبحسب مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، ترتبط أغلب الاستثمارات الليبية في مصر بالقطاع العام لا الخاص، إذ تعتمد على علاقات وثيقة بالبنى السياسية الرسمية في ليبيا، وتستخدم هذه الروابط لتأمين عقود استراتيجية ومناصب مؤسسية والوصول إلى شراكات عامة–خاصة داخل ليبيا وخارجها. ولا تشكّل هذه الفئة "جالية ريادية" بالمعنى التقليدي، بل شبكة أعمال عابرة للحدود تدير أنشطتها بين ليبيا ومصر ودول عربية أخرى.
يُظهر التاريخ الاقتصادي الليبي أن القطاع الخاص ظل ضعيفاً رغم سياسات “الانفتاح” منذ التسعينيات. فالنظام الليبي السابق حافظ على نموذج اقتصادي تهيمن عليه الدولة، وركّز الثروة في قطاع النفط والغاز. ونظراً لحظر الملكية الخاصة بين عامَي 1978 والتسعينيات، اضطر رجال الأعمال للعمل في الاقتصاد غير الرسمي أو الهجرة إلى الخارج. من هؤلاء رجل الأعمال حسن تاتناكي، الذي بدأ نشاطه من القاهرة واشترى مجموعة “تشالنجر” المتخصصة في خدمات النفط عام 1991، قبل أن يوسّع نشاطه بين البلدين.
بدأ النظام الليبي في أواخر الثمانينيات تخفيف قبضته الاقتصادية جزئياً، واستدعى بعض رجال الأعمال المغتربين لاستخدام شبكاتهم الدولية في تجاوز العقوبات ونقل الأموال. أدى هذا التداخل بين السياسة والمال إلى ترسيخ “اقتصاد الطاعة” الذي منح النخب امتيازات مقابل الولاء للنظام، مما جعل القطاع الخاص تابعاً للمصالح السياسية لا مستقلاً عنها.
تركّز الاستثمارات الليبية في مصر اليوم في قطاعات السياحة والعقارات والتمويل والزراعة، عبر مؤسسات تابعة للصندوق السيادي الليبي “الهيئة الليبية للاستثمار” المنشأ عام 2006 لاستثمار فوائض النفط. وتملك ليبيا حصصاً كبيرة في بنوك مصرية مثل 38.7% من البنك العربي الدولي و27.7% من بنك قناة السويس. كما شاركت مؤسسات ليبية في مشاريع كبرى مثل مشروع “ون ناينتي” بالقاهرة الجديدة بالشراكة مع شركة “لاند مارك صبور”.
لكن هذا التوسع تخللته عمليات فساد ضخمة، إذ استخدم مقربون من نظام القذافي أموال الدولة للاستثمار الشخصي في مصر قبل 2011، ثم فرّ بعضهم إليها بعد سقوط النظام مع الاحتفاظ بشبكاتهم الاقتصادية. ومع انقسام ليبيا عام 2014 بين حكومتين في طرابلس وبنغازي، اندلع صراع على السيطرة على مقار الهيئة الليبية للاستثمار في مصر وعلى المناصب الإدارية فيها، ما حوّل الاستثمار العام إلى أداة للثروة والنفوذ السياسي.
دفعت هذه الديناميكيات بعض رجال الأعمال الليبيين للانخراط المباشر في السياسة سعياً وراء النفوذ، إذ ترشح عدد منهم للانتخابات الرئاسية المؤجلة عام 2021. وأصبحت السيطرة على العقود العامة ومصادر التمويل هدفاً مركزياً للنخب الاقتصادية التي توسّع أنشطتها عبر الحدود لتعظيم أرباحها من أموال الدولة.
ورغم الفرص المتاحة في مصر، فإن البيئة الاستثمارية لا تسهّل دخول القطاع الخاص الليبي، نظراً لاحتكار الشركات المصرية الكبرى والمنافسة الأجنبية القوية. الشركات الليبية الصغيرة تفتقر للخبرة ورأس المال والعمالة الماهرة، بينما السوق المصرية مزدحمة وتخضع لعلاقات معقدة بين القطاعين العام والعسكري. الجيش المصري يمنح امتيازات واسعة لشركاته الخاصة ويحتكر تنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبرى.
نتيجة لذلك، يواصل اللاعبون الليبيون القدامى السيطرة على الساحة الاقتصادية في مصر، وهم أنفسهم الذين نشطوا منذ الثمانينيات والتسعينيات. خبرتهم الطويلة في التعامل مع مؤسسات الدولة المصرية مكّنتهم من توسيع أعمالهم في مجالات النفط والعقارات والبناء والسياحة والصناعة. من أبرزهم مجموعة “غرغار” التي أسست عام 1993 ولها مقر في القاهرة ومشاريع بقيمة تتجاوز 41 مليون دولار في مدينة نصر، إلى جانب سلسلة مطاعم “عكّاس” ومشروعات تطوير عمراني قيد التنفيذ حتى 2027.
تُدير هذه الشركات أنشطتها ضمن شبكة أوسع تشمل الإمارات وليبيا ومصر، حيث تمنح الإمارات بيئة أعمال أكثر استقراراً وحوافز ضريبية كبيرة. لذلك تتخذ كبرى الشركات الليبية مثل “تشالنجر” و“غرغار” و“ألادا” من دبي مقراً رئيسياً، مع مكاتب في القاهرة وطرابلس. ويعتمد رجال الأعمال على تنقلهم بين هذه الدول الثلاث مستفيدين من الجنسية المزدوجة والمرونة التشغيلية.
ويؤكد الباحثون أن مصر أصبحت مركزاً استراتيجياً لرجال الأعمال الليبيين ذوي التوجه الليبرالي المعتدل، الذين استثمر بعضهم في الإعلام لمواجهة تيارات الإسلام السياسي. أطلق تاتناكي قناة “الأزهري” في القاهرة عام 2009 لترويج رؤية إسلام وسطي، ثم قناة “ليبيا أولاً” عام 2011، بينما أسس محمود شمام مجموعة “الوسط” الإعلامية عام 2013. هذه الوسائل الإعلامية دعمت الموقف المصري والإماراتي المؤيد للمشير خليفة حفتر في مواجهة الجماعات المسلحة الموالية لتركيا وقطر.
ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا عام 2020، تحوّل التعاون بين طرابلس والقاهرة إلى شراكة اقتصادية متنامية. التقى ممثلو غرف التجارة في البلدين عدة مرات لتوقيع اتفاقات في 2022 حول تعزيز التجارة وإنشاء مناطق حرة مشتركة، كما حصلت شركات مصرية على عقود إعادة إعمار بقيمة 110 مليارات دولار على مدى عشر سنوات.
مع ذلك، لا تشير المؤشرات إلى تغير جذري في طبيعة المجتمع الاقتصادي الليبي في مصر، إذ تظل الاستثمارات العامة هي المحرك الأساسي، ويستمر القطاع الخاص الليبي في السعي للنفاذ عبر الدولة لا خارجها. ويخلص التقرير إلى أن علاقات المصالح الجديدة بين القاهرة وطرابلس تُكرّس بقاء النخبة الليبية العابرة للحدود في موقع السيطرة، دون أن تفتح فعلياً الباب أمام تجديد قطاع خاص مستقل أو أكثر تنافسية.